جُبلت الفطرة البشرية للإنسان على التطور والإبداع الدائم، فمن المشي إلى ركوب الدواب إلى استعمال وسائل النقل والمواصلات و وصولاً إلى الطائرات، تطور الإنسان في حياته ليجعل منها أكثر راحةً وسهولة وذلك باتباع ثقافة الابتكار التي زرعت بداخله.

يقول تعالى في كتابه الكريم: (هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأرض وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) [هود:61]، هذه الفقر من الآية تبين لنا أحد أهم القواعد القرآنية لوظيفة الإنسان في الحياة وعلاقته بما حوله لتكون أساساً في نظرته لحياته على سطح الأرض.
كلمة (استعمركم) هي انشقاق لكملة (استعمر) التي تأتي على وزن استفعل، أي أن الله سبحانه وتعالى خلقكم من هذه الأرض واستعمركم فيها لبتنوها وتطوروها وأعطاكم القدرات الكافية لجعلكم قادرون على إعمارها.
مع هذا التطور التكنولوجي الكبير الذي نراه يومياً في مختلف المجالات والذي ألهم وعزز ثقافة الابتكار لدى البشر بشكل عام، أصبحنا نرى العديد من النماذج الناجحة والتي وصلت إلى ما وصلت إليه بفضل اتباعهم ثقافة الابتكار والتفكير خارج الصندوق. وبالرغم من وجود العديد من الشخصيات العربية التي أسهمت و وصلت إلى مراحل متقدمة جداً في الابتكار، إلا أن معظم ما نراه اليوم من تطور كبير في شتّى المجالات يعود لشخصيات أجنبية.
أنا أبتكر إذاً أنا موجود
"أنا أبتكر إذاً أنا موجود" هي العبارة التي يجب على المدارس و الآباء تعليمها لأطفالهم في سن مبكرة، ربما يكون نظام التربية المتبع لدينا يثبّط حس الابتكار عند أطفالنا، فلا ندعهم يتعرضون لخطر أو لمجازفة، ونساعدهم فوراً متى ما عجزوا عن اتمام أمرٍ ما.
في أحد الأيام، كنت جالساً بجانب طفلي الذي يبلغ 4 أعوام وبيده أحد الألعاب الإلكترونية يحاول أن يُنجز المهمّة المطلوبة منه، وبعد بلوغه أحد المراحل الصعبة من نفس اللعبة، طلب مني مباشرةً أن أساعده في حلّها بعد فشله في مرّة واحد فقط. كان ردّي له أن لا تطلب مني مساعدتك، اعتمد على نفسك و حاول مراراً وتكراراً للنجاح في المهمة المطلوبة منك ثم غادرت الغرفة، بعد عدّة دقائق، عدت إليه وكلّي يقين بأنه لا يزال يحاول أو قد أنهى المهمّة بالفعل، لكن ما وجدته غير ذلك، قام بإغلاقها وانشغل بلعبة أخرى.
في هذه اللحظة أدركت أن هناك خطأ في الطريقة التي نعامل بها أطفالنا بجعلهم يلجأوون إلينا مباشرةً عند مواجهتهم لأي ظرف مهما كان، وبالتالي نقضي على ثقافة الابتكار لديهم لينقلوا نفس الفكر إلى أبنائهم مستقبلاً.
ربما يكون هذا أحد الأسباب الرئيسية في الشلل الملحوظ عند العرب بالحديث عن ثقافة الابتكار وطريقة تجاوبنا مع أبنائنا وهرولتنا لمساعدتهم فوراً متى ما مرّوا بمأزقٍ ما.
تاريخ العرب والمسلمين في ثقافة الابتكار
تاريخنا كعرب ومسلمين في الابتكار ربما يكون الأكثر أهمية وتأثيراً في ثقافة الابتكار والتطور التكنولوجي الملحوظ في كافة المجالات الذي نراه الآن. بينما كانت العصور المظلمة تُغرق أوروبا خلال الحقبة التاريخية ما بين القرن الخامس إلى القرن الخامس عشر ميلادياً، كانت هناك عصور ذهبية عاشها العرب والمسلمين أثناء تلك في الفترة ليكتشفوا ويخترعوا علوماً أسهمت بشكل كبير و واضح جداً في النهضة العمرانية والتطور التكنولوجي والثقافي الآن.
لا يستطيع أحد إنكار إسهامات العرب والمسلمين في شتّى مجالات الحياة و المحتوى الثقافي البارز الذي خلّفوه ليُبنى عليه الآن إنجازات كبيرة ساهمت في دفع عجلة الابتكار العالمي.
الرازي على سبيل المثال كان له أكثر من 200 كتاب يتحدث فيها عن العلوم بصورة عامة وأهمها الطب، فكان أول من اخترع الخيوط الجراحية وصنع المراهم وساهمت مؤلفاته بتطوير علم العقاقير الحالي.
ابن رشد أيضاً الذي يُعد من أهم المؤلفين والباحثين في العديد من المجالات أبرزها الفلك والطب، وهو الذي اكتشف البقع الشمسية على القمر واكتشف بعض النجوم الغير ملحوظة سابقاً.
عباس بن فرناس الذي كان أول من آمن بقدرة الإنسان على الطيران من خلال تجاربه العديدة قبل الأخوان رايت بمئات السنين. بالرغم من تعرضه للعديد من الإصابات البالغة، إلا أنه استطاع الطيران بالفعل لمسافة كبيرة، لكنه لم يحسب حساب الهبوط بنسيانه للذيل مما أدى إلى سقوطه.
مريم الاسطرلابي، عالمة فلك مبدعة اخترعت "الاسطرلاب المعقد" وطورته لتحديد المواضع السماوية عليه. اختراعها المعقد هذا كان الأساس في اختراع البوصلة وبنيت عليه الأقمار الصناعية في وقتنا المعاصر.
الخوارزمي، عالم رياضيات وجغرافيا وفلك، أرسى القواعد الأولى والأساسية لما يُطلق عليه علوم الجبر والخوارزميات التي ساهمت بل وتعد الأساس في اختراع الحاسوب و الهواتف.
العديد والعديد غيرهم من العرب والمسلمين قاموا باختراعات واكتشافات عظيمة لا نستطيع أن نحصيها في هذا المقال، إلا أن المؤكد والواضح للجميع بأن العرب هم الأساس في التطور الحضاري والتكنولوجي الآن.
بالرغم من أن أجدادنا هم من قاموا بتلك العلوم العظيمة، إلا أننا الآن أصبحنا متكاسلون و مستهلكون أكثر من كوننا مبتكرون و منتجون ضاربين بعرض الحائط ما قام به أسلافنا من تطور علمي وثقافي واجتماعي وأصبحنا بانتظار الاختراعات والاكتشافات الخارجية فقط لنتطور بتطورهم ونتعلم بعلومهم دون حافز لدينا لإضافة بصمتنا في هذا العصر المتسارع.
على من اللوم في هذا التراجع
طبيعة النفس البشرية لا تُحب الخطأ، وتبحث دائماً عن ما يُقدرها ويحترمها ولا تقبل النقد، لذلك، لا بد لنا من إلقاء اللوم على شخصٍ ما أو سبب معين لإبعاد الشبهات عن أنفسنا لاعتقادنا أن كل ما نقوم به هو الصواب دائماً.
ربما نحتاج في بعض الأحيان إلى صفعة قوية لتحسين طريقة التفكير التي اعتمدناها ونمارسها دوماً. إذا كنّا جميعنا مصيبون فمن المُخطئ إذاً ؟ باعتقادي الشخصي يجب علينا إزالة العوائق التي تحول بيننا وبين الطريقة التي نتكئ عليها للشعور بالرضا الذاتي ولصحة عقولنا بتجنب التفكير الزائد والابتعاد عن الضغط النفسي.
بالنظر إلى حياة العلماء الآنف ذكرهم سابقاً، لم تكن حياتهم سهلة ومفروشة بالورود والاهتمام. ربما تكون قد قلت لنفسك أن هؤلاء قد كانوا متفرغين لاختراعاتهم والدولة والناس متفهمون ومقدرون لما يقدموه بل ويقدمون لهم كل الدعم اللازم والمؤازرة والتشجيع والتحفيز، لهذا السبب كان لديهم الوقت الكافي والموارد المناسبة لإنجاز ما قاموا به.